أما أدعية الامام على وجه العموم فانها تمثل جانبا أصيلا ومشرقا من جوانب التربية الاسلامية ، وهي من افضل الوسائل لتهذيب النفوس ، وتقويم الاخلاق. لقد رأى الامام العظيم الأمة ـ في عصره ـ قد غمرتها سحب قاتمة من التدهور الديني والخلقي والاجتماعي فوضع أدعيته التي عرفت ب ( السجادية) ليعالج بها الأمراض النفسية ، ويعيد للأمة ما فقدته من أرصدتها الروحية والفكرية ، وهي من اثمن الثروات الاسلامية بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة. كَانَ الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَكَ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ لُؤْمٌ، وَ إِنَّ تَرْكِيَ الِاسْتِغْفَارَ مَعَ عِلْمِي بِسَعَةِ رَحْمَتِكَ عَجْزٌ، فَكَمْ تَتَحَبَّبُ إِلَيَّ وَ أَنْتَ الْغَنِيُّ عَنِّي، وَ كَمْ أَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ وَ أَنَا الْفَقِيرُ إِلَيْكَ، فَيَا مَنْ إِذَا تَوَعَّدَ عَفَا وَ إِذَا وَعَدَ وَفَى، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ افْعَلْ بِي أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِكَ" كَانَ من الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام: "اللَّهُمَّ لَا تَسْتَدْرِجْنِي بِالْإِحْسَانِ، وَ لَا تُؤَدِّبْنِي بِالْبَلَاءِ" 1.
إن هممنا بفاحشة شجعنا عليها ، و إن هممنا بعمل صالح ثبطنا عنه ، يتعرض لنا بالشهوات ، و ينصب لنا بالشبهات ، إن وعدنا كذبنا ، و إن منانا اخلفنا و إلا تصرف عنا كئده يضلنا ، و إلا تقنا خباله يستزلنا. اللهم فاقهر سلطانه عنا بسلطانك حتي تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك فنصبح من كيده في المعصومين بك. اللهم اعطني كل سؤلي ، و اقض لي حوائجي ، و لا تمنعني الاجابة و قد ضمنتها لي ، و لا تحجب دعائي عنك و قد امرتني به ، و امنن علي بكل ما يصلحني في دنياي و اخرتي ما ذكرت منه و ما نسيت ، أو اظهرت أو اخفيت أو اعلنت أو اسررت. و اجعلني في جميع ذلك من المصلحين بسؤالي اياك ، المنجحين بالطلب اليك غير الممنوعين بالتوكل عليك. المعودين بالتعوذ بك ، الرابحين في التجارة عليك ، المجارين بعزك ، الموسع عليهم الرزق الحلال من فضلك ، الواسع بجودك و كرمك ، المعزين من الذل بك ، و المجارين من الظلم بعدلك المعافين من البلاء برحمتك ، و المغنين من الفقر بغناك ، و المعصومين من الذنوب و الزلل و الخطاء بتقواك ، و الموفقين للخير و الرشد و الصواب بطاعتك ، و المحال بينهم و بين الذنوب بقدرتك ، التاركين لكل معصيتك ، الساكنين في جوارك. اللهم اعطنا جميع ذلك بتوفيقك و رحمتك ، و اعذنا من عذاب السعير ، و اعط جميع المسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات مثل الذي سالتك لنفسي و لولدي في عاجل الدنيا و اجل الاخرة ، إنك قريب مجيب سميع عليهم عفو غفور رؤف رحيم.
الدعاء ينطوي على مضامين عالية، وعبارات دقيقة ومعبرة لا نجد لها مثلًا في أدعية أخرى. فهذا الدعاء يدفع الإنسان لاستعراض وتأمل نعم الله عز وجل، فيقر الإنسان بعجزه عن شكر هذه النعم. وهذا الدعاء يرسخ في وجدان الداعي الأدب الرباني بنسبة كل حسنة إلى الله، ونسبة كل سيئة إلى نفسه. 🌠 *اقتباسات* 🔸*البيت العتيق الذي أحللته البركة، وجعلته للناس أمنا*: أي الكعبة التي ذكرها الله في قوله: { وَلْيَطَّوَّف الكتاب يشرح مفردات وجمل دعاء يوم عرفة للإمام الحسين عليه السلام، مع بعض المعلومات الإضافية المكملة للشرح. 🌠 *اقتباسات* 🔸*البيت العتيق الذي أحللته البركة، وجعلته للناس أمنا*: أي الكعبة التي ذكرها الله في قوله: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} وسمي عتيقًا لِقِدَمِه، فإنه أول بيت بني للعبادة، وجعله الله مباركاً وهدى للعالمين وأمنًا. يقول تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} 🔸 *قد يقال أن الفرق بين "الستار" و"الغفار"* أن 'الستار* هو الذي يستر الذنب وإن بقيت آثاره ومضاعفاته في الدنيا، *والغفار* هو الذي يستر الذنب ويمحو آثاره في الآخرة.
لذلك كل هذه الأمور تجمع لك حقيقة التوحيد وحقيقة الإنابة والخضوع لله تعالى. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين: يقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 23: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين). ومعنى الآية أن تتوكل على الله وتعتمد عليه وتفوّض أمرك إليه، وربط سبحانه وتعالى هذا بالإيمان إن كنتم مومنين. فعار علينا نفوض أمرنا إلى من هن أعلى منا سلطانا وعلما ومالا وجاها ونترك التفويض إلى ملك الملوك الواحد القهار. أهمية التوكل على الله: إذا أردت الاستفادة من ثمرات التوكل على الله سبحانه وتعالى لكي تحصل على شيء معين أو تدفع عنك شيئا معينا، فإن الذي أردته سوف يحصل بإذن الله لا محال؛ إما أن يحصل ما تريده بالضبط أو يحصل لك ما هو أفضل منه، أما إذا كان توكلك ضعيفا، فإن حصول ما تريده قد يتأخر، ومقدار التأخر يكون بمقدار التوكل في قلبك؛ كلما كان توكلك أضعف تأخر ما تريده أكثر. قد يقول السائل: أنا توكلت على الله لكن كيف أعرف توكّلي قوي أو ضعيف؟ يمكن للمؤمن قياس مقدار توكله بحسب آثر التوكل عليه، ومن آثار التوكل على العبد: الثقة بتحقق ما يريده، الطمأنينة، عدم الاضطراب، الراحة وكأن الشيء الذي تريده قد حصلت عليه أصلا.
وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه. والموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها كما أنه لا يهملها أو يبطلها بل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجريها. وعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله المقدورات بها، فإن الله أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، والناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يجهدون أنفسهم في الأسباب ومن تعلقت نفس بالله وأنزل به حوائجه، والتجأ إليه وفوض أمره كله إليه، كفاه كل سؤله ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله وتمائمه، واعتمد على حوله وقوته، وكله الله إلى ذلك وخذله. ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح وهو نوع من الطلب والسعي، ولكنه سعي يسير. قال في تيسير العزيز الحميد (١): "وهذا معروف بالنصوص والتجارب". • ثمرات التوكل على الله: في التوكل على راحة البال، واستقرار في الحال، ودفع كيد الأشرار، وهو من أقوى الأسباب التي يدع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم، وبالتوكل تستغني النفس عما في أيدي الناس، يقول شيخ الإسلام (٢): "وما رجا أحد مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه" ، ومن فوض أمره إلى مولاه حاز مناه، وزكريا بلغ من الكبر عتياً ثم وُهب سيداً من فضلاء البشر (١) تيسير العزيز الحميد ص١٧٠.
التوكل على الله من عوامل جلب المنافع ودفع المخاطر. يحب الله سبحانه وتعالى عباده المتوكلين عليه، فقد قال عز وجل في سورة آل عمران: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". فوائد التوكل على الله ومن الفوائد الأخرى للتوكل على الله ما يلي: المتوكل على الله مُحصن من أي مرض قلبي مثل التشاؤم والكِبر، كما أنه مُحصن من شرور العين والحسد. من يتوكل على الله يزداد إيمانه به ويرضى بقضائه. المتوكلين على الله من أوائل الناس الفائزين بالجنة، فقد جاء في كتاب الله تعالى في سورة العنكبوت: " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ 58 الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ". يمثل التوكل على الله وقاية للمؤمن من أذى الناس وظلمهم وعدوانهم، فقد جاء في سورة آل عمران: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ".
[8] انظر: للرازي، مفاتيح الغيب، مج (11-12/31-32) [9] انظر: لسيد قطب (2/739-750) [10] انظر: للمقدسي، مختصر منهاج القاصدين، ص 297 [11] الترمذي (2516) واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند (2804) وقال شاكر: إسناده صحيح.
مفاهيم خاطئة والتوكل الذي حض عليه الإسلام وجعله خلق المؤمنين المخلصين لا ينافي الأسباب التي أقام الله عليها نظام هذا الكون، وأجرى عليها سنته، ومضت بها أقداره، وحكم بها شرعه. ومن هنا يدين العلماء سلوك هؤلاء الدراويش الذين يهملون واجباتهم الدنيوية تحت ستار التوكل والفهم الخاطئ للنصوص القرآنية والتوجيهات النبوية الكريمة.
بالثقة بما عند الله يكمل الإيمان وهذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قد تركَ (6) دراهم مع زوجتهِ فاطمة الزهراء لتشتري طحينًا ، فلمّا خرجَ وجدَ سائلًا فأرسلَ لها طالبًا الدراهم، فظنّت أنهُ نسي أنها ثمنُ الطحين، فقال لها قولًا يكتب بماء الذهب: (لا يصدقُ إيمانُ عبدٍ حتى يكونَ ما عندَ الله أوثقَ مما في يده) ، فلمّا علمت رضي الله عنها السبب ما ترددت وسارعت فبذلتها. ولمّا مضى علي كرّمَ الله وجهه إذ برجلٍ يمرّ وعنده ناقة فقال له: هل تبيعني النّاقة دينًا؟ قال: أنت نعم، فاشتراها دينًا بـ (140) درهمًا، ثم ما مشى قليلًا وإذ بتاجر يطلبها فباعه إياها بـ (200)، ثم سددَ دينهُ وبقيَ معهُ (60) درهمًا، فرجعَ إلى فاطمة وقال: اُنظري قول الله عز وجل {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. أهلُ بيت النبي ﷺ هم نموذجُ الكرمِ و الجود والإنفاق والثقةِ بالله عزّ وجل ، هؤلاء قُداوتنا الذين نُصليّ ونُسلّمُ عليهم في كل صلاة، هؤلاء الذين تعلموا من جدّهم ﷺ قسمه: «ما نقصَ مالٌ من صدقة » ، فلنخض هذه التجربة ولنعش هذهِ المعاني. هذا خير من قرصك يتجلى معنى اليقين بالله في قصةِ أم المؤمنين السيدةُ عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق، كانت صائمة واقتربَ وقتُ الإفطار وما عندها إلا رغيف ، فطرق الباب سائلٌ فأخبرتهُ أن تعطيهِ الرغيف، فأشفقت الخادمةُ عليها فقالت: بم تُفطرين؟!