موقع شاهد فور

ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

June 30, 2024

→ غباوة اليهود هداية الحيارى المؤلف: ابن القيم إشراق الأرض بالنبوة ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نوروز. فهذه جملتها، ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة. فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة وهو متخبظ في ظلمات طبعه وهواه وجهله وقلبه مظلم ووجهه مظلم؛ لأنه يبقى على الظلمة الأصلية ولا يناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش. بصائر أغشاها النهار بضوئه *** ولائمها قطع من الليل مظلم يكاد نور النبوة يعمي تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملائمتها إياها، والمؤمن عمله نور وقوله نور ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله.

وهذا يُحَلُّ بِاكتِشافِ الإنسَانِ لِذَاتِهِ ولِهُويَّتِهِ الإلَهِيَّة، إذ مِن دُونِ نُورِ اللهِ تَبقَى مَعرِفَةُ الإنسانِ لِذَاتِهِ ولِلآخَرِينَ غَيرَ مُكتَمِلَة. وَبِالعَودَةِ إلى عِبارَةِ الإنسانِ والذِّئب، هُناكَ نُقطةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا لا يُمكِنُ تجاهُلُها لِأَهميَّتِها، وهِيَ أنَّ المَقُولَةَ نَاقِصَة في شَكلِها المُتدَاوَل، إذ أَتَت في ظُهُورِها الأَوَّلِ مع Plautus، كَنتيجَةٍ لِجُملَةٍ سابِقَة "عندما لا نعرفُهُ"، لتَكُونَ: "عِندمَا لا نَعرِفُ الإنسَانَ، يُصبِحُ الإنسانُ ذِئبًا للإنسانِ الآخَر"[7]. وهذا مَعناهُ: إنَّ الخَوفَ هُوَ مِن عَدمِ مَعرِفَةِ الآخَر وليس مِنَ الآخَر. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نوری زاده. والفَرقُ كَبيرٌ وكَبيرٌ جِدًّا. وهنا يُطرح السؤال: كَيفَ نَكسِرُ حَائِطَ الغُربَةِ المُظلم؟. الجَوابُ بِالنِّسبَةِ للّاهوتِ المَسيحيّ هوَ "أبْعادُ الإنسانِ الثَّالوثِيَّة. " أي انفتَاحُ الإنسانِ على اللهِ، الّذي يَجعَلُهُ يَكتَشِفُ ذَاتَهُ ويَنفَتِحُ على الآخَرِين. وإن فَعَلَ كُلُّ إنسانٍ هذا الأمرَ، فإنَّه يَعبُرُ مِنَ الظُّلمَةِ إلى النُّورِ، ومِنَ الانفِرادِيَّةِ إلى الجَماعَة، ومنَ الصَّنَمِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ إلى العِبادَةِ الإلَهِيَّةِ الحَقّة.

ولَكن أَيَّةَ أيقُونَةٍ؟ طَبعًا الأيقُونَةُ المُزَيَّفَةُ والغَاشَّةُ الّتي خَبَّأتْ أَيقُونَتَنا الحَقِيقِيَّة. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نوری. لا يَجِبُ كَسرَها فَحَسب، بَل تَمزيقُها إرْبًا إرْبًا وتَفتِيتُها كَي لا يَبقى مِنها شَيءٌ، عِندَها يُشرِقُ نُورُ وَجهِنا مِن جَدِيدٍ بَعدَ أن كانَ مَحجُوبًا بِكثرَةِ خَطايَانا. ولكِنَّ هَذا لا يُمكِنُ أن يَتِمَّ إلا بِاتِّحَادِنا بِالنُّورِ الإلَهِيّ غَيرِ المَخلُوقِ الّذي تَكَلَّمَ عَلَيهِ القِدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس[1]، والّذي تُخصِّصُ لَهُ الكَنيسَةُ الأُرثُوذُكسِيَّةُ الأحدَ الثَّانِي مِنَ الصَّوم. هَذا النُّورُ المُنحَدِرُ على الإنسانِ التَّائِبِ والمُصَلّي والمُتَخَشِّعِ، والطَّالِبِ رَحمَةَ اللهِ اللّامُتنَاهِيَة، لَيسَ نِعمَةً إلَهِيَّةً لِكُلِّ إنسَانٍ بِحَدِّ ذَاتِهِ فَقَط، بَل للجميع، لِنَكُونَ أَنوارًا بَعضُنا لِبَعض، مُتَصالِحِينَ مَعَ ذَواتِنا، صَادِقِينَ وغيرَ مُرائِينَ، مُحِبِّينَ غَيرَ انتِهازِيّين. فَالإنسانُ سَندٌ للإنسانِ الآخَر، ومَلاكٌ يُلاقِيه فِي مَسيرَةِ حياتهِ ويُنير دَربه، "لأَنْ هكَذَا أَوْصَانَا الرَّبُّ: قَدْ أَقَمْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ، لِتَكُونَ أَنْتَ خَلاَصًا إِلَى أَقْصَى الأَرْض.

[2]"، ولَيسَ كما يُقالُ "الإنسَانُ ذِئبٌ للإنسَانِ الآخَر". هَذِهِ المَقولَةُ، للأسف، قَديمةٌ جِدًّا، وكان ظُهورُها الأَوَّلُ مَعَ الكاتِبِ المَسرَحِيّ الرُّومَانِيّ Plautus[3]، في كُومِيديا الحَمير Asinaria. [4] وقد لاقَت اهتِمَامًا كَبيرًا عِندَ بَاحِثِينَ وفَلاسِفَةٍ كَثيرين، فَطبيبُ الأَعصابِ النَّمساوِيّ Sigmund Freud (١٨٣٦-١٩٣٩) مثلًا، كَتَبَ عن مَيلِ الإنسَانِ الطَّبيعِيّ للعُنفِ، مِمَّا يَجعَلُ أَمرَ تَحقِيقِ المَحَبَّةِ تُجاهَ الآخَرِ صَعبَةَ المَنال، وكذلك تَحقيقُها في الكَونِ. كَما تَكَلَّم على صُعوبَةِ بُلوغِ الإنسانِ السَّعادةَ، حتّى لو قاربَ الآلهة. وقد أَتى بَحثُهُ ضِمنَ كِتابِهِ الّذي سَمَّاهُ في بَادِئ الأَمرِ »الفَرَحُ والثَّقافَةُ «Le Bonheur et La Culture ، ومِن ثَمَّ »الشقاءُ في الثَّقافَةِ Le Malheur dans la culture «، لِيَدعُوه في النِّهايَةِ »الاستِياءُ في الثَّقافَةِ أو فِي الحَضارَاتِ Le Malaise dans la culture أو Malaise dans la civilisation «Le، وهَذا الأَمرُ يُتَرجِمُ نَظرَةَ مُعانَاةٍ كَبِيرَةٍ وتشاؤمٍ في مَوضُوعِ الإنسَانِ والبَشرِيَّة كَكُل. وهَذا ما جَعَلَ الأديبَ الفَرنسيَّ Molière (ق١٧) قَبلَهُ يَقُولُ في Le Misanthrope: "النَّاسُ يَعيشُونَ معًا كَذِئابٍ حَقيقِيّين".

موقع شاهد فور, 2024

[email protected]