فتركه يذهب، ووفى بعهده. سيظل اسم الحارث بن عباد وذكراه خالدة عبر الحقب، كحكيم وشاعر وفارس مغوار. صرع وتغلب الحارث بن عباد على الزير سالم مرتين، مرة بسباق بينهما فاز فيه الحارث، والمرة الثانية عندما تقابلا في ساحة المعركة، رغم الفارق الكبير في السن، وذلك إن دل يدل على قوة الحارث بن عباد. Copyright secured by Digiprove © 2021 Ashraf Eltom
وأصبحت تلك سنة عند العرب لكل من أراد الثأر. تلك الأبيات كانت أذان الحرب ودخول قبيلة الحارث بن عباد في الحرب. وهنا كان الأثر الكبير للحارث بإشتراكه في الحرب، فكان هو المخطط للمعركة الأخيرة والقاصمة، والتي تقريباً نهت كل شيء، فهو الذي أشار على جماعته بحلاقة رؤوسهم، وأن يصطحبوا نسائهم معهم، حتى يعالجوا الجريح ويقدموا الماء للعطشى، على أن تفرق النساء بين رجالهم ورجال العدو بأن تنظر إلى رأسه، فإذا كان حليقاً فهو منهم، وما دون ذلك قتلوه. فكان يوم التحالق أو يوم تحلاق اللمم ، كان كل ذلك من تخطيطه. وحتى عندما اقتربت المعركة، تجهز الحارث كامل الجهاز وركب فرسه وحمل رمحه، وأخبر الجميع بترك سالم الزير له. بدأت المعركه، وحمى الوطيس، الحارث بن عباد يتقدم ويقاتل كما إبن الثلاثين لولا ضعف نظره، وأخذ ينادي في المعركة، دلوني على سالم، دلوني على سالم. فيأتيه فارس ويقاتله، ويرميه الحارث عن حصانه. فيسأله الحارث: دلني على الزير سالم، دلني على عدي. فيقول: أدلك عليه بشرط أن تعطيني الأمان فرد الحارث نعم اعطيك الأمان فيرد الفارس: فأنا عدي. وهنا تجلت عظمة الحارث بن عباد، فقاتل أبنه بين يديه ويمكنه بكل سهولة أن ينال ثأره، لكنه لم يفعل، فقد أعطاه الأمان، والحارث لا يحنث عهدا قطعه، حتى لقاتل إبنه.
فهو الذي يقول: كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ حُلاَّمْ حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ هَمَّامْ كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ مُرَّهْ خرج ابن الحارث بن عُباد بُجيرٌ في نوق له يرعاها، أحكمت عليه أيْدي المهلهل الَّتي وزَّعها في كلّ ناحية وصوب تريد أن تأخُذ من بكْر أيَّة غِرَّة، اقتيد الفتى بُجير إلى المهلْهل الَّذي نسبه فانتسب، وقال: أنا بُجير بن الحارث بن عُباد. انتسب الفتى وذكر أنَّ أباه اعتزل الحرْب بين تغلب وربيعة. حضر الحوار امرؤُ القَيس بن أبان، فنصح المهلهل بعدم قتْل بجير، وذكر أنَّ أباه اعتزل الحرب. عاد المهلهل إلى الفتى وسأله عن أمِّه، فأجاب: بجير. قُدِّم الفتى بُجير ليُقْتَل بأمر المهلهل وبيده. فقال امرؤ القيس بن أبان: واللهِ، ليُقْتَلنَّ بهذا الفتى رجلٌ لا يُسأل عن أمِّه. فقتلَه وقال: بُؤْ بشِسْع نعل كُليب. بلغ خبرُ قتل بجير الحارث بن عباد أباه، فماذا قال؟ - نِعْمَ القتيل بجيرٌ أصلح بدمه بين ابنَي وائل؛ يعني: تغلب وربيعة. - لكن الأمر ليس كما تتصوَّر يا بن عُباد، أتعرف ماذا قال المهلْهل عند قتل ابنَك بُجيرًا؟ - لا. - قال: بُؤْ بنعْل كليب. - أوَقالها حقًّا؟ - نعم.
هذه مرثية أب ثاكل لابنه.. وهي مرثية بلغت من الصدق والحرارة الحد الذي جعلها واحدة من عيون التراث الشعري العربي! وأصبح كثير من أبياتها أمثالا تُضرب في المواقف المماثلة والحالات المشابهة. خاصة أنها لم تحمل لوعة الثكل والفقد فقط! وإنما حملت أيضا لوعة الكريم الشريف المعتز بمكانته ومنزلته! حين يكون مصرع ابنه بجير ـ أغلى ما لديه ـ وكأنه في مقابل شِسْع نعل! والشِسْع هو السير الذي يدخل بين الإصبعين! وكان قاتله ـ المهلهل ـ قد صاح في وجهه وهو يقتله: بُؤْ بِشِسع نعل كليب! أما صاحب هذه المرثية الملتاعة فهو الحارث بن عُباد سيد قبائل بكر! الذي لم يشأ أن يشارك في حرب البسوس التي دارت رحاها قرابة أربعين عاما ـ كما يقول الرواة ـ بين بكر وتغلب! بسبب مصرع كليب سيد تغلب على يد جساس البكري الذي غضب لإهانة لحقت بخالته البسوس حين رمى كليب ناقة لها ـ تسللت إلى مرعاه ـ بسهم أصابها فقتلها. فثارت ثائرة جساس وانطلق إليه فقتله. وخرج المهلهل ـ أخو كليب ـ مطالبا بثأره وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت نيران هذه الحرب الضارية. أما المهلهل بطل هذه الحرب فهو عدي بن ربيعة الذي يرجع نسبه إلى قبيلة تغلب! ويقول الرواة إنه لقب بالمهلهل لأنه أول من هلهل القصيدة العربية!
لما شاهدت البسوس ذلك صرخت وقالت "وأذلاه" أي أنهم أصابهم الذل،وظلت البسوس تنظم الشعر وتستغيث بابن أختها، وقيل أن العرب عرضوا عليها عشرة نوق أخرى بدلًا من ناقتها سراب لكنها رفضت، فأتى جساس وقال لها أنه سيقتل جمل أعظم من ناقتها وظن الجمع أنه يقصد جمل كليب والذي كان من أعظم الإبل، وكان مجموعة من أبناء بكر قد أتوا لبئر ماء ليشربوا، فلحقهم كليب ومنعهم، فذهبوا لأخر فمنعهم، وذهبوا لثالث فمنعهم، فأتى جساس إلى كليب وقال له أنت تريد أن تقتل قومنا عطشًا كما قتلت ناقة خالتي البسوس، فقال له كليب ما منعتهم من ماء إلا ونحن له شاغلون ، فطعن جساس كليب، وكان معه صاحبه عمرو بن الحارث بن ذهل. فطلب كليب وهو ينزف من جساس أن يسقيه الماء فرفض، فطلبه من عمرو، فنزل عمرو من فرسه وقتل كليب، فقيل عنه: المستجير بعمرو كالمستجير من الرمضاء بالنار". ويقال أن كليبًا قبل أن يلفظ أنفاسه قد كتب بدمه وصيته على الحجر لأخيه المهلهل وطلب منه أن يثأر له وأن يرعى ابنته اليمامة. وكان كليب أخو عدي بن ربيعة من سادات تغلب وشعرائها، وكان عدي لا يهتم سوى بالخمر والنساء واللهو، فلما عرف بمقتل أخيه، ترك اللهو وقال لبنو بكر إما أن يقتلوا جساس أو يعيدوا إليه أخيه كليب، ولما رفض بنو بكر تسليم ابنهم جساس إلى المهلهل ليقتله، بدأت الحرب.
وفعلاً خالد تاجا مثل الشخصية بكمال تام واعطاها حقها غير ناقص. مولده ووفاته: ولد خالد تاجا في عام ١٩٣٩م وتوفي في عام ٢٠١٢م، وترك إرث عظيم سيظل خالد مدى الدهر لعظمة أداءه.