فهذه مجموعة من المسلمين جاءت من المدينة إلى مكة لأداء العمرة، يتسلحون فقط بسلاح المسافر ولا مدد لهم؛ إذ المدينة على مسافة خمسمائة كيلو متر تقريبًا من هذا المكان، وكان الطبيعي أنهم إذا قاتلوا المشركين فإنهم جميعًا سيقتلون؛ إذ إنهم سيقاتلون جيشًا بعدة وعتاد، وفوق ذلك فهو على بُعد خطوات قليلة من المدد، كما أن قريشًا كان معها الأحابيش والقبائل الحليفة. في هذه البيعة لم يفكر واحد من المسلمين في أولاده أو زوجته، لم يفكر أحدهم في تجارته أو في أعماله، لم يفكر أحدهم بالمرة في حياته، لم يقل أحد منهم أن ظروفه لا تسمح، بل لم يعقد أحد منهم هذه البيعة حرجًا من رسول الله r، أو حرجًا من المسلمين، إنما عقدوها جميعًا وهم صادقون راغبون، يقول الله I: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. فقد اطّلع الله U على قلوب كل من بايع، فعَلِم I أن هذه القلوب جميعها مخلصة مؤمنة، وكان هذا من الفتح المبين الذي ذكره الله U في بداية سورة الفتح التي تحدثت عن غزوة الحديبية أو صلح الحديبية ، حيث قال I: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
- عمرة لم أجد فيها جرحًا ولا تعديلًا 2- سالم بن أبي الأشعث عن عمرة أخرجه ابن شبة في كتابه تاريخ المدينة (ج4/ص1310) واللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ج8/ص1442) كلاهما من طريق الأشعث بن سالم الأشعث العدوي قال: حدثني أبي، عن عمرة بنت قيس قالت: رأيت على مصحف عثمان رضي الله عنه {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137] قطرة من دم. - أشعث وأباه لم أجد فيهما جرحًا ولا تعديلًا وأخرج ابن شبة في كتابه تاريخ المدينة (ج4/ص1310) حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة الشعيري، عن سالم بن الأشعث العدوي عن عمرو، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول قطرة قطرت من دم عثمان رضي الله عنه على {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137]. - عمرو غلط إنما هي عمرة بنت قيس العدوية وسالمًا هذا ترجمه ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (ج4/ص179) وقال سالم بن أبي أشعث روى عن عمرة بنت عبد الرحمن إن امرأة عثمان أخرجت إليه مصحف عثمان رضي الله عنه فإذا على (فسيكفيكهم الله) قطرة من دم عثمان روى عنه عثمان بن منصور قاضي المصيصة. انتهى قلت ليست هي بنت عبد الرحمن بل بنت قيس 6) أبو عامر الأنصاري أخرجه ابن شبة في كتابه تاريخ المدينة بتحقيق فهيم شلتوت وبتحقيق علي دندل وياسين بيان (ج4/ص1309) حدثنا......... قال: حدثنا عمرو بن قسط الرقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد الملك بن محمد قال: حدثنا ثابت بن العجلان قال: حدثني سليم أبو عامر قال: كنت حاضرا حين حصر عثمان، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فدخل عليه، فضرب فقطرت قطرة من دمه على {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137].
فَأَنْ يصرح رب العالمين بالرضا عن هذه المجموعة الكبيرة من البشر، والتي يبلغ عددها ألف وأربعمائة مسلم، وهم ما زالوا أحياء على وجه الأرض يُرزقون، لهو -والله- من الفتح المبين. وأن تصل مجموعة من البشر إلى هذا الرقي وهذا الإخلاص وهذا الفقه والفَهْم، وهذا العمل بهذه الصورة إلى الدرجة التي ترضي رب العالمين I رضاءً تامًّا يعبر عنه في كتابه الكريم، ونقرؤه في كتابه إلى يوم القيامة، هذا من الفتح المبين. فكان لهذه البيعة حقيقةً مكانتُها وقيمتها في الميزان الإسلامي، وقد ظل هؤلاء الصحابة ألف وأربعمائة صحابي في عُرْف علماء الأمة من أعظم المسلمين درجة وإلى يوم القيامة، وهذا هو كلام الرسول r وشهادته لهم، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه r خاطبهم يوم الحديبية وقال لهم: "أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ" [4]. فكان هذا -إذن- هو أول ما ظهر في هذه البيعة، وهو التضحية والبذل والعطاء الكامل من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه. ثانيًا: اهتزاز مكة من داخلها: هذا الموقف الذي أعلن فيه المسلمون تضحياتهم العظيمة، ورغبتهم الأكيدة في الموت هزَّ مكة من داخلها هزة عنيفة، فمن ذا الذي يستطيع أن يقاتل قومًا يطلبون الموت؟!