ولما نادى عليهم بالكذب في قوله: إن كنتم صادقين أثبت لغيرهم بقوله: بلى ما ادعوا الاختصاص به ، ثم بين أهل الجنة بقوله: من أسلم وجهه أي: كليته ، لأن الوجه أشرف ما ظهر من الإنسان ، فمن أسلمه أسلم كله ، كما أن "الإيمان" إذعان القلب الذي هو أشرف ما بطن وإذعانه إذعان جميع الأعضاء; و "الإسلام"; قال الحرالي: الإلقاء بما يكون من منة في باطن أو ظاهر; و "الوجه ": مجتمع حواس الحيوان ، وأحسن ما في الموتان ، وهو ما عدا الحيوان ، وموقع الفتنة من الشيء الفتان; وهو أول ما يحاول إبداؤه من الأشياء لذلك لله من أجل أنه الله الجامع للكمال. ولما كان ذكر الأجر لكل واحد بعينه أنص على المقصود وأنفى [ ص: 114] للتعنت ، أفرد الضمير فقال: وهو محسن في جانب الحق بإذعان القلب ، وفي جانب الخلق بما يرضي الرب ، فصار يعبد الله كأنه يراه ، فطابق سره علنه ، ولما نفوا الأجر عن غيرهم وأثبته سبحانه للمتصف بالإسلام منهم وممن سواهم وكان ربما قيل إنه أعطى غيرهم لكونه الملك المطلق بغير سبب ربط الأجر بالفاء دليلا على أن إسلامهم هو السبب فقال: فله خاصة أجره عند ربه إحسانا إليه بإثبات نفعه على حسب ما ربه به في كل شريعة. ولما كان ربما ادعى أنه ما أفرد الضمير إلا لأن المراد واحد بعينه فلا يقدح ذلك في دعوى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود أو النصارى جمع فقال: ولا خوف عليهم من آت ، ولا هم يحزنون على شيء فات دفعا لضرهم ، وهذا كما أثبت سبحانه خلاف دعواهم في مس النار بقوله: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الآية ، فالتحم الكلام بذلك أشد التحام وانتظم أي انتظام.
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي. وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى: ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) [ النساء: 142] ، وقال تعالى: ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) [ الماعون: 4 ، 7] ، ولهذا قال تعالى: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) [ الكهف: 110]. وقال في هذه الآية الكريمة: ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) وقوله: ( فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ف ( لا خوف عليهم) فيما يستقبلونه ، ( ولا هم يحزنون) على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير: ف ( لا خوف عليهم) يعني: في الآخرة ( ولا هم يحزنون) [ يعني: لا يحزنون] للموت.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً" [4]. ﴿ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ أي: عند ربه، خالقه ومالكه والمتصرف فيه، وفي هذا إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لأوليائه، وتعظيم هذا الأجر؛ لأنه عند الله عز وجل وضامن له، وأنه لن يضيع عنده عز وجل؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]. ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فيما يستقبلون وفيما أمامهم في الآخرة كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]. ولهم نصيب من ذلك في دنياهم بسبب إيمانهم بالأمن النفسي والطمأنينة وانشراح الصدور، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].
﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى تِلْكَ أمانِيُّهم قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾. ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهْوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى "ودَّ كَثِيرٌ" وما بَيْنَهُما مِن قَوْلِهِ ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ [البقرة: ١٠٩] الآيَةَ اعْتِراضٌ كَما تَقَدَّمَ. والضَّمِيرُ لِأهْلِ الكِتابِ كُلِّهِمْ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ "إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى ومَقُولُ القَوْلِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلافِ القائِلِ فاليَهُودُ قالَتْ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا، والنَّصارى قالَتْ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ نَصارى فَجَمَعَ القُرْآنُ بَيْنَ قَوْلَيْهِما عَلى طَرِيقَةِ الإيجازِ بِجَمْعِ ما اشْتَرَكا فِيهِ وهو نَفْي دُخُولِ الجَنَّةِ عَنِ المُسْتَثْنى مِنهُ المَحْذُوفِ لِأجْلِ تَفْرِيعِ الِاسْتِثْناءِ.
ومن يسلم وجهه الى الله وهو محسن ومعنى { يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله.. } [ لقمان: 22] أخلص وجهه في عبادته لله وحده ، وبذلك يكون في معية الله ، ومَنْ كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته ، ولا يُضيع وقته معه ، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه ، فالذي ينجيك من الشيطان أن تُسلم وجهك لله. وقد ضربنا لذلك مثلاً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فلا يجرؤ أحد من الصبيان أن يعتدي عليه ، أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك ، لا يَسْلم منه بحال ، كذلك العبد إنِ انفلتَ من يد الله ومعيته. وهذا المعنى ورد أيضاً في قوله سبحانه: { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ... } [ البقرة: 112] وهنا قال { إِلَى الله... } [ لقمان: 22] فما الفرق بين حرفي الجر: إلى ، اللام؟ استعمال ( إلى) تدل على أن الله تعالى هو الغاية ، والغاية لا بُدَّ لها من طريق للهداية يُوصِّل إليها.
تفسير ابن كثر - سورة البقرة - الآية 112 خيارات حفظ الصفحة والطباعة بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) (البقرة) تفسير ابن كثر قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ" يَقُول مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ.