ومما يدخل في قوله: " جهله من جهله " ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ومن هنا تخضع رقاب الأطباء. [5] والحديث يشير أيضا: إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وقد تجهل في وقت ثم تعلم، أو يجهلها البعض ويعلمها البعض، وقد دلت التجارب على صدق هذه القضية، فإن بعض الأمراض كانت تعد مما هو مستعص لا علاج له، فلما اكتشفت اللقاحات والأدوية المناسبة لها أصبحت من الأمراض العادية التي يسهل علاجها بإذن الله. فجميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه. وهذا يقتضي حثا على تعلم طب الأبدان، ويرغب فيه، كما يتعلم طب القلوب، فإن ذلك من جملة الأسباب النافعة. [6] ودل الحديث على مشروعية العلاج، لأنه – صلى الله عليه وسلم – أخبرنا بأن الذي خلق الداء خلق الدواء تنبيهاً لنا وإرشاداً وترغيباً في التداوي.. الدرر السنية. واستعمال الأدوية لا ينافي التوكل إذا اعتقد أنها تنفع بإذن الله وتقديره، وأنها لا تؤثر إلاّ بإرادته عز وجل.
لا ناصر لنا ولا معين إلا الله.. لا يدفع الضر ولا يرفع البلاء إلا الله. وهذا الوباء الذي حلّ وأصابَ فئآمًا من الناس، يستعان برفعه ومواجهته بالاستعانةِ بالله سبحانه، ثم بالأخذِ بالأسبابِ الشرعية، والتوجيهات الصحية، وما قامت به هذه البلاد من احترازات وجهود للحد من انتشاره، والبحث عن علاج ولقاح يخفف منه أو يرفعه جهود مشكورة.. لكل داء دواء حديث. في صحيح الإمام مسلم قال عليه الصلاة والسلام «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». ثم إن الأمرَ كلَه لله، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.. ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟) ، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني) رواه مسلم. وفي رواية أخرى للحديث عند مسلم: (من غشنا فليس منا). معاني المفردات السماء: المطر الصُبْرة: الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن. تفاصيل الموقف الغشّ ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرّشد، نظراً لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلبٍ غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرّباني. ومظاهر الغش والخداع كثيرةٌ، جاء أحدها في موقفٍ سجّله لنا التاريخ، وفيه أنه النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت له زيارةٌ إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام –جاء في المستدرك أنها من الحنطة- وقد عرضها صاحبها للبيع. ومن النظرة الأولى أُعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن الفحص الدقيق يُظهر ما كان خافياً، فقد أدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا بها مبتلّةٌ على نحوٍ يوحي بقرب فسادها.
المراجع ↑ سورة المطففين ، آية: 1-3. ↑ "من غشنا فليس منا " ، islamway ، 26-5-2014، اطّلع عليه بتاريخ 9-12-2019. ↑ رواه الألباني ، في صحيح الترمذي، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 1315 ، صحيح. ↑ "شرح الحديث" ، dorar ، اطّلع عليه بتاريخ 9-12-2019. ↑ أحمد عماري (23-7-2016)، "الغش: حقيقته ومخاطره وأنواعه وسبل الوقاية منه" ، alukah ، اطّلع عليه بتاريخ 9-12-2019. ↑ رواه البخاري ، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 2150 ، صحيح. ↑ رواه البخاري ، في صحيح البخاري، عن جرير بن عبدالله، الصفحة أو الرقم: 2715 ، صحيح. ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن معقل بن يسار، الصفحة أو الرقم: 4495 ، أخرجه في صحيحه. ↑ سورة الاسراء ، آية: 34. ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 6496 ، صحيح.
الغش في العمل: وهو ما يقوم به الموظفون من غش في وظائفهم ومهامهم، فيوراوغون ويخادعون ويماطلون دون وضع تقوى الله ومخافته في اعتباراهم. الغش في تقديم النصيحة في غير مكانها الصحيح: أي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن كان بمقدوره أن يقدم لأخيه نصيحه تنفعه في دينه ودنياه ولم يفعل يعد من الغشاشين؛ إذ روى جرير بن عبد الله عن الرسول أنه قال: [بَايَعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى إقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ] [٧]. من صور الغش في المجتمع غش الرعية، فمن أوكل له أمر المسلمين ولم يؤدِ ذلك بما يرضي الله -عز وجل- دخل في دائرة الغش، إذ روى معقل بن يسار عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: [ما مِن عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيَّةً يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه إلَّا حرَّم اللهُ عليه الجنَّةَ] [٨]. تزوير الحقائق وقلبها: والنقض في العهود والمواثيق؛ فشهادة الزور غش، وكتمان الباطل غش؛ إذ يقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [٩]. الغش في الاختبارات المدرسية: وما يترتب عليه من ظلم للطلاب؛ إذ يرفع الغش طلابًا لا يستحقون النجاح، ويقلل من درجات طلابٍ ويضعهم في غير موقعهم، وللأسف يزيد الظلم عند خروج جيل جاهل قد يحتل مناصبًا حساسة وهامة في المجتمع، إذ يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: [إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ] [١٠].
استدار النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الرجل، وألقى إليه بنظرةِ لائمٍ وأتبعها بسؤال المعاتب: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟) ، فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: ": أصابته السماء يا رسول الله"، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يُعتذر به، وأن يُبرّر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولةً منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه.