قال: ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل. وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود. وقالوا يا محمد ، ألم يبلغنا عنك أنك تقول: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أفعنيتنا أم عنيت قومك ؟ فقال: " كلا قد عنيت ". قالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم " ، وأنزل الله: ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) [ لقمان: 27]. وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال: أحدها: أن المراد [ بالروح]: أرواح بني آدم. قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله: ( ويسألونك عن الروح) الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا. فأتاه جبريل فقال له: ( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا: من جاءك بهذا ؟ فقال: " جاءني به جبريل من عند الله ؟ " فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدو لنا.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال بعضهم: لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال: فظننت أنه يوحى إليه ، فقال: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث ، وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح ، فقال: ما رابكم إليه. وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية.
وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية: ( ويسألونك عن الروح) ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح. فسألوه ، فنزلت: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) قالوا: أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا. قال: وأنزل الله: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) [ الكهف: 109]. وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فقالوا يزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) ؟ [ البقرة: 269] قال: فنزلت: ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) [ لقمان: 27].
وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم. وقال السهيلي: روي عن علي أنه قال: هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي: وقيل المراد بذلك: طائفة من الملائكة على صور بني آدم. وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم. وقوله: ( قل الروح من أمر ربي) أي: من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر: أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي: شرب منه بمنقاره ، فقال: يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وقال السهيلي: قال بعض الناس: لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله عزّ وجلّ ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) قال: يا محمد والناس أجمعون. وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) يعني: اليهود. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر في علم الله قليل. وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلا من كثير مما يعلم الله.
وقيل: أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله: ( قل الروح من أمر ربي) أي: من شرعه ، أي: فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع. وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم. ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر. وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء. قال: كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ، ولا يقال له: " ماء " حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس: " روح " إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح: نفس إلا باعتبار ما تئول إليه. فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن ، والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا. ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في: الروح.
المسار الصفحة الرئيسة » القرآن الكريم » سورة الإسراء » الآية 85 البحث الرقم: 2129 المشاهدات: 23640 وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٨٥﴾ « الآية السابقة الآية اللاحقة »