وقوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} أي يكون الناس هنالك فريقين، وجوه مسفرة أي مستنيرة {ضاحكة مستبشرة} أي مسرورة فرحة، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء هم أهل الجنة، {ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة} أي يعلوها وتغشاها {قترة} أي سواد، وفي الحديث: (يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم)، فهو قوله تعالى: {ووجوه يومئذ عليها غبرة} ""أخرجه ابن أبي حاتم""، وقال ابن عباس {ترهقها قترة} أي يغشاها سواد الوجوه، وقوله تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} أي الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}. اكسب ثواب بنشر هذا التفسير
أما السياق في سورة (المعارج) ، فهو مختلف عما في (عبس) ذلك أنه مشهد من مشاهد العذاب الذي لا يطاق ، فقد جيء بالمجرم ، ليقذف به في هذا الجحيم المستعر ، وهذا المجرم يودّ النجاة بكل سبيل ولو أدى ذلك إلى أن يبدأ بابنه ، فيضعه في دركات لظى. يوم يفر المرء من اخيه وصاحبته وبنيه. فرتب المذكورين ترتيباً آخر يقتضيه السياق ، وهو البدء بالأقرب إلى القلب والأعلق بالنفس فيفتدي به فضلاً عن الآخرين. وإن البدء بأقرب الناس وأحبهم إلى هذا المجرم وألصقهم بقلبه ليفتدي به ، يدلّ على أن العذاب فوق التصوّر ، وهوله أبعد من الخيال ، بحيث جعله يبدأ باقرب الناس إليه ، وأن يتخلّى عن كل مساومة ، فيبدأ يفدي نفسه بالأقرب إلى قلبه ثم الأبعد لذا بدأ ببنيه أعز ما عنده ثم صاحبته وأخيه ثم فصيلته ثم من في الأرض جميعاً والملاحظ أنه في حالة الفداء هذه لم يذكر الأم والأب وهذا لأن الله تعالى أمر بإكرام الأب والأم ويمنع الإفتداء بالأم أو الأب من العذاب إكراماً لهما. المصدر: لمسات بيانية في نصوص من التنزل ، الدكتور فاضل السامرائي ، ص193-196 [/align]
وجواب (إذا): محذوف أي: كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة، يدل عليه قوله: { يومَ يفرُّ المرءُ من أخيه} ، فالظرف متعلق بذلك الجواب، وقيل: منصوب بأعني، وقيل: بدل من " إذا " أي: يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه، { و} يفرُّ أيضاً من { أُمهِ وأبيهِ} مع شدة محبتهم فيه في الدنيا، { وصاحبتهِ} أي: زوجته { وبنيهِ} ، بدأ بالأخ ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه, ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أحبُّ، فالآية من باب الترقي. وقيل: أول مَن يفرُّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح. { لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه} أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل، وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره. يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه. ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء، فقال: { وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ} أي: مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا أضاء، قيل: ذلك مِن قيام الليل، وقيل: مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم، { ضاحكةٌ مستبشرةٌ} بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة. { ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ} أي: غبار وكدور، { تَرهقها} أي: تعلوها وتغشاها { قَتَرَةٌ} أي: سواد وظُلمة { أولئك هم الكفرةُ} ، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه.
تفسير القرطبي قوله تعالى { فإذا جاءت الصاخة} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس). يوم يفر المرء من أخيه. وقال الشاعر: يصيخ للنبأة أسماعه ** إصاخة المنشد للمنشد قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز: يا جارتي هل لك أن تجالدي ** جلادة كالصك بالجلامد ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان: أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا وقال آخر: أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم ** فهل سمعتم بسر يورث الصمما لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.