أما عن كيفية عذاب القبر وهل أنه يقع على الروح والجسد، أم يقع على الجسد فقط أم على الروح فقط؟ فقد اختلف العلماء في ذلك على عدة آراء، وفيما يلي بيان ذلك: يرى الإمام الغزاليّ وابن هُبيرة أنّ النعيم والعذاب في مرحلة الحياة البرزخية يقع على الروح فقط، فلا يشعر جسد الميت ولا يتأثر بذلك العذاب أو النعيم إطلاقاً، بل إنّ ذلك لا يتعدى كونه شعورٌ باللذة أو العذاب، وقد مثَّل أصحاب هذا الرأي لقولهم بالنائم يرى حلماً مزعجاً فيشعر بالعذاب والألم في حين أنّ جسده لا يتغيّر عليه شيءٌ أبداً، أو يرى حلماً مليئاً بالملذات فيتنعَّم ويسعد. ذهب غالبية علماء أهل السنّة والجماعة إلى القول إنّ العذاب والنعيم في أثناء حياة البرزخ إنّما يقع على جسد الميت وروحه، فيتأثر الجسد بالعذاب، وتتألم الروح منه، أو يتأثر بالنعيم وتسعد الروح به، وهو بذلك كالحي المستيقظ في الدنيا يشعر بالعذاب ويتأثر به جسده، ويشعر بالنعيم ويتأثر به جسده إيجاباً. يرى الإمام النّووي من علماء الشافعية أنّ النّعيم والعذاب في هذه المرحلة إنما يكون للجسد بعد أن تعود إليه الروح، سواء كان الجسد كاملاً، أو ناقصاً، كمن فقد أحد أعضائه قبل موته، أو مات بكارثة شتّتت جسده، كحريقٍ أو حادثٍ أو ما شابه ذلك.
الشُّهداء: لِقول النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (للشَّهيدِ عِندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفَرُ لَه في أوَّلِ دَفعةٍ ويَرى مقعدَه منَ الجنَّةِ ويُجارُ مِن عذابِ القبرِ). [٩] المُرابطين في سبيل الله -تعالى-: لِقول النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (كلُّ ميِّتٍ يُختَمُ على عملِهِ إلَّا الَّذي ماتَ مرابطًا في سبيلِ اللَّهِ فإنَّهُ ينمي لَهُ عملُهُ إلى يومِ القيامةِ ويأمَنُ فتنةِ القبرِ). [١٠] كيف تكون حياة الميِّت في القبر بعد أول ليلة بعد المرحلة الأُولى والليلة الأُولى في القبر وبعد سؤال المَلَكَين، ينتقل الإنسان إلى حياته في القبر والتي تُسمَّى بحياة البرزخ، وما يحدّد مصيرة وحاله التي يكون عليها في البرزخ هو حالهُ في الدّنيا، فالمؤمن يُعطى نصيباً من النعيم في قبره، والكافر يُعَذَّب جزاءً لكفره في الدُّنيا، [١١] ولفظ (العبد) يُطلق على الرُّوح والجسد معاً، ممَّا يدُلُّ على وُقوع النَّعيم أو العذاب عليهما.
هل يستمر عذاب القبر إلى قيام الساعة ويُثبت ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-- قال: «إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتولى عنه أصحابَه، وإنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهم، أتاه ملكانِ، فَيُقعَدانِه فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللهِ ورسولُه، فَيُقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنةِ، فيراهما جميعًا. قال قَتادَةُ وذكر لنا: أنه يُفْسحُ في قبرِه، ثم رجع إلى حديثِ أنسٍ، قال: وأما المنافقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فَيُقالُ: لا دَريتَ ولا تَليتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً، يَسمعُها من يليِه غيرَ الثقلين». بعد أن ينصرف الملكان عن الميت بعد سؤاله ويرى مكانه في الجنة أو النار تبدأ حياة القبر؛ فإن كان العبد مُؤمنًا وُسِّع له في قبره ورأى من مظاهر النعيم واللذة ما يجعله يتمنّى قرب قيام الساعة لينتقل إلى النعيم الأكبر في الجنة، أما الكافر والفاسق فإنه وبعد سؤال الملكين له وعرض منزله في النار يتمنّى ألا تقوم الساعة حتى لا يدخل النار، فيضيق عليه قبره ويشعر بالعذاب الذي يأتيه من كل مكان، ومن أشد العذاب أنه يرى مقعده من النار في الصباح والمساء، قال تعالى: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا».
يرى الإمام ابن جريرٍ الطبري أنّ العذاب والنعيم في هذه المرحلة إنّما يكون على جسد الميّت فقط، حيث يرى أن الميت لا تُردّ إليه الروح، فيتأثر جسد الميت بعذاب القبر ونعيمه، ويشعر به كما لو كان حياً، دون أن تُردَّ روحه إليه.
[٢] وعندما يتعرّض الكافر والمنافق لسؤال الملكين يُعقد لسانهما فلا يستطيعا البوح بالجواب الصحيح، ووردت الإشارة لذلك في السّنة النبوية في الحديث: (وأَمَّا المُنَافِقُ -أوِ المُرْتَابُ لا أدْرِي أيَّ ذلكَ قالَتْ أسْمَاءُ- فيَقولُ: لا أدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يقولونَ شيئًا فَقُلتُهُ) ، [٣] والمَلَكان اللّذان يسألان الموتى هُما: مُنكر ونكير، فيبشِّران المؤمن بالنَّعيم المقيم في الجنَّة، ويتوعَّدان الكافر بالعذاب في الآخرة. [٤] [٥] ويجب على الإنسان الإيمان بهذه المرحلة التي تكون عند نُزول الميت إلى قبره، فَيَردُّ الله -تعالى- إليه روحه وسمعه وبصره، ثُمَّ بعد ذلك تُوجَّه إليه الأسئلة الثلاث المذكورة سابقاً. . [٦] [٧] ومن الأحاديث التي وردت في ذلك قول النبيّ -عليه الصَّلاةُ والسلام-: (إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ وتَوَلَّى عنْه أصْحَابُهُ، وإنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ فيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأمَّا المُؤْمِنُ، فيَقولُ: أشْهَدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورَسولُهُ... ). [٦] [٧] ولا بد من الإشارة إلى أنَّ هذه الفتنة يتعرَّض لها جميع الموتى باستثناء البعض الذين يُعصمون من فتنة القبر وسؤال المَلَكَين، وهؤلاء هم: [٨] [٤] الأنبياء والرُّسل -عليهم السلام-.
بتصرّف. ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 1379، صحيح. ^ أ ب رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن البراء بن عازب، الصفحة أو الرقم: 3558، صحيح. ↑ عبد العزيز آل عبد اللطيف (1422هـ)، التوحيد للناشئة والمبتدئين (الطبعة الأولى)، السعودية: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 84-85. بتصرّف. ↑ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فتاوى نور على الدرب ، صفحة 324-325، جزء 4. بتصرّف. ↑ محمد إبراهيم الحمد، قصة البشرية ، السعودية: موقع وزارة الأوقاف السعودية، صفحة 81. بتصرّف. ↑ محمد العثيمين (1995)، تعليق مختصر على كتاب لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (الطبعة الثالثة)، الرياض: مكتبة أضواء السلف، صفحة 112-114. بتصرّف. ↑ سورة الواقعة، آية: 92-94. ↑ سورة غافر، آية: 46. ↑ محمدالسعوي (1425 هـ)، رسالة في أسس العقيدة (الطبعة الأولى)، السعودية: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 67. بتصرّف. ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 1361، صحيح. ↑ صالح بن فوزان (1999)، الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد (الطبعة الرابعة)، السعودية: دار ابن الجوزي، صفحة 282-283.