موقع شاهد فور

طقس سبت شمران

June 28, 2024
المكان يسيطر على أشخاص غائبين في الحمى، فالشخصيات بين «طعنة الحمى وهوة الهذيان»، وكما جاء في صفحة 49: «نحن هنا غير موجودين»، وفي صفحة 137: كلنا جنس واحد في هذه الصحراء.. تختفي الأنوثة والرجولة. إنها رواية مكان، رواية تتبخر فيها الحالة الإنسانية في مساراتها العادية؛ فلا طموح ولا تطور ولا أحلام سوية، المكان هو الحاضر بثقله كله، فارضًا قرار الموت والغياب على الإنسان والنبات والحيوان والأشياء؛ فالإنسان يقبع في اطارات ضيقة لا يقدر سوى على ابراز غرائز بدائية تنتفي فيها السلوكيات الحضارية، وهذا ما يظهر اشتعال غريزة الاعتداء الجسدي والروحي واللفظي، فيما النبات لا يجد نافذة للعيش في الرمل، وما هذا العجز عن الحياة سوى حالة يتماهى فيها كل شيء؛ فـ «كأن البحر هنا، ولا يوجد ماء... مرتل كنسي يشرح طقس الصلاة في سبت اليعازر. كأن الرمل هنا ولا توجد أرض» 53. ويعبر البطل عن ذلك بقوله: يلزمنا روح طليقة، يلزمنا أن نكون موجودين فعلا في الأماكن التي نسكنها، ونحن غير موجودين، في أماكن ليست موجودة على الاطلاق (49). أما الأشياء فتغوص وتتهاوى وتتحول إلى كثبان رمل. الحمى علميًّا عندما يدخل الجسد في الحرارة المرتفعة نتيجة مرض ما يفقد المصاب السيطرة على كلماته إلى حد ما، فتخرج متشظية، مكسورة، ولا ترابط فيما بينها، فتجتمع عند حدود الخوف من الموت، وبالاحساس العابر أو الراسخ أن هذا الجسد لم يعد يمتلك القدرة على العودة إلى العافية والصحة.

مرتل كنسي يشرح طقس الصلاة في سبت اليعازر

يصعب على لغة سردية جافة مقاربة الصحراء، فهذا العالم الفائض بحضوره، بصمته القاتل، والشاسع بتأكيد غياب الحياة عن روحه وتفاصيله، تدفع المرء لأن يتحدى ذلك بالشعر، وربما هذا ما يفسر لنا بروز الشعر في الصحراء منذ آلاف السنين قبل أي فن أدبي آخر. هل تمكن نصر الله من تقديم نص وفيّ لواقعه؟ سؤال تبدو الإجابة عليه مربكة، لذا، لأقل أن ما خطر في ذهني وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من الرواية: هل إذا غيّرنا أسماء الأماكن سيؤثر ذلك على بنية الرواية؟ وأجبت بشيء من الاقتناع: لا، فهذه الرواية تتوسل روح «المكان المريض» أو «اليباب» كما توسل ذلك أكثر من شاعر وروائي غربي وعربي في نصوصهم، حيث لا تبدو أسماء الأماكن ذات قيمة، إنما قيمتها بما تسيله من لغة شاعرية أو سردية، تضيء في نفس قارئها أسئلة عن الحياة والوجود والحب والكره والموت، أسئلة تمسّ الذات البشرية القلقة باستمرار مهما كان المكان الذي تقف عليه صلبا أو لزجا. * الرواية صدرت سنة 1985 عن دار الشروق وأعيد نشرها في ثلاث طبعات عربية فيما صدرت حديثا بترجمة دانماركية عن دار أندرسكوفن ترجمتها ماريان مادلونغ، وكانت صدرت بترجمة انكليزية عن دار انترلينك في نيويورك وترجمة ايطاليه أصدرتها دار ايليسو.

شاعرية السرد وصفت هذه الرواية بأنها من أبرز الروايات ذات الصبغة الحداثية، على حد قول د. سلمى الخضراء الجيوسي، وأنها رواية تدفع بكاتبها للانضمام إلى كتّاب ما بعد الحداثة في العالم العربي، كما ترى د. فدوى مالطي دوغلاس رئيسة قسم الدراسات الشرقية بجامعة انديانا. ونلمس في الرواية معرفة عميقة بأصول وتجليات الثقافة العربية والثقافة الغربية والتقاليد الأسلوبية في الأدب والشعر والسينما، إذ الناقد الإيطالي فليبو لا بورتا يعتبرها واحدة من الروايات الكفيلة باثارة دهشة القارئ بعيدا عن الاستهلاكي الذي يروج محمولا على نظرة ذات طابع استعماري، حيث نرى نصر الله يستخدم تقنية سردية موازية لذلك التمزق في الوعي والازدواجية التي تعيشها الشخصية الرئيسة الواقعة بين فكي الخلل المطلق وسؤال المصير ومغزى الحياة. بالمقابل يلحظ الشاعر والروائي الإنجليزي جيرمي ريد أن ما نحصل عليه من خلال البحث يحمل الحدة الهلاسية لقصيدة نثرية، أو قصيدة غنائية متأججة لا تعدم السخرية الخاصة بمسرح العبث. أمام تناقض النقاد في نسبة هذه الرواية للحداثة أو ما بعد الحداثة، فان مقاربتها تظهر مسألة خروجها عن كلاسيكية الرواية المتوارثة، بحيث ترتمي بكل ثقلها على مساحة من شاعرية السرد إذا صح التعبير، ولعلها كانت نصّا شعريا طويلا جرى التعامل معها لتفتح نوافذها على السرد، فتقف بين منطقتي الإبداع: الشعر والرواية، وتصبح لا شعرا ولا رواية بالمعنى التقليدي، إنما نصّا يحمل عنوانا تأنسن فيه المكان بحالة مرضية: براري الحمى.

موقع شاهد فور, 2024

[email protected]